نساء الحمّام الدمشقي: عشق وتغزل وقبلات


للعشق المثْلي النسوي في سوريا مرجعيات ترتبط بالحمّامات الدمشقية القديمة التي تخصص جانبا منها، في شكل عام، للنساء. الأخيرات اللواتي يذهبن كل أسبوع مرة إلى حمام "المقدّم" أو حمام "الشهيد" للاجتماع برفيقات من نفس الجنس، وكذلك لتداول شؤون البيت او الزواج والأسرة وباقي الهموم الشخصية والعامة، دونما رقابة من زوج أو ابن أو أقارب.

بصفة عامة اكتسب حمام النساء سمعة اشتهرت في دمشق القديمة، لأن زبوناته كنّ من علية المجتمع وفيه كانت الواحدة منهن تبث شكواها للأخرى بشؤونها العاطفية الخاصة. الشخصية الأشهر في حمام النساء الدمشقي، هي امرأة تدعى "اللبّانة" وهي سيدة تهتم بجسد النسوة المقبلات على الزواج، في المقام الأول، أو النسوة اللواتي يعتنين بأجسادهن، عموما، في المقام الثاني. وصارت اللبانة صديقة الكل وإليها تبث الأسرار ومعها كل قصص النساء في بيوتهن الشامية الصامتة والوادعة.

يقوم عمل اللبانة بالدرجة الأولى على فرك وتدليك جسد الفتاة أو السيدة بمادة عطرية قوية الأثر، وتترك هذه المادة أثرا طويل الأمد على رائحة جسد الفتاة، كما من شأن التدليك والفرك الطويلين أن ينعّما الجسد ويصقلانه خصوصا انها مرحلة تلي مرحلة "تنظيف الشعر" التي تمهر بها اللبانة خصوصا لدى العروس الجديدة التي تحتاج من يجعل جسدها بأفضل حالاته. وتستخدم اللبانة عجينة مخلوطة بمجموعة كبيرة من المعقمات والعطور تدلّك بها جسد الفتاة التي تعرّضت في الحمام ذاته لحمام ساخن مطوّل يجعل بشرتها تستجيب للتدليك والفرك.

الدور الطريف للبانة هو في امتداح جسد العروس أو السيدة. أي عليها أن تمتدح جمال الجسد لسببين أساسيين: الأول إن كان الجسد لعروس فهي تعزز ثقتها بنفسها أمام زوجها العتيد، مما يجعلها معه أكثر ثقة بالنفس كأن تقول لها : " نيّالو اللي بيشوف هالجسم الأبيض الربّاني" أو : " سبحان اللي خلقك جسم ولا أحلى ولا أنعم" أو " فتلة فخاد بتجنّن" . والقصد كله من هذا الكلام هو تعزيز ثقة العروس الغر كما اسلفنا بنفسها. أما إذا كان الجسد لسيدة متزوجة، وعلى الأغلب لهذا السيدة شكوى ما من الزوج تبوحها السيدة للبانة، فإن اللبانة تقول وهي تدلك الجسد :" هالأعمى مابيشوف هالجسم الطري" أو " ألاّ يلعنو اللي مابيبوّس هالبياض ويشكر الله عليه". وكلام كثير من هذا القبيل.

مغازلة اللبانة للسيدات تترك أثرا كبيرا على نوعية الصداقة التي تجريها معهن، فإذا لم تنجح العروس في زواجها وتعذبت مع الزوج تذهب الى الحمام وتشتكي للبانة تحت التدليك والفرك لتتولى اللبانة مرة أخرى التأسف على "جهل" الرجل بجمال هذا "البياض" مثلاً أو التأسف على عماه الذي منعه من التمتع بـ "نعومة" هذا الجسد. هذا شيء تفعله اللبانة دائما كنوع من اكتساب رضى النسوة الساخطات على أزواجهن واللواتي لايتعرضن لمغازلة من الأزواج على جسدهن، وتكون اللبانة هي موئل المنكسرات المعذبات اللواتي لايمكن لهن تلقي مغازلة كبيرة بهذا الحجم.

التطور البنيوي الذي طرأ على شخصية اللبانة، وهو تطور غيّر كليا من مهمة عملها ودورها، هو انها صارت طرفا فعليا في التغزل والإعجاب، بالانتقال من التكلم الى اللمس المعجب والتنفس الحميم الساخن قرب الجسد المشتكي. النقلة النوعية بالعلاقة، وهي لم ترصد تاريخيا بالتدرج، أي الانتقال من التغزل التعويضي الى التغزل الشخصي، لأن الموروث الشعبي الدمشقي لم يحدد فترة انفصال معينة بين الدورين إنما يتم تداول الأمر بصفة عامة، النقلة النوعية بالعلاقة هو ان اللبانة تغيرت خلال العصر العثماني تغيرات عدة من خلال اطلاعها على أجساد الأوربيات القادمات مع الولاة العثمانيين من وسط أوروبا وشرقها ومن آسيا، وأغلب النساء القادمات مع الولاة لم يكنّ يحسنَّ اكتشاف جسدهن أو يحسن اكتشاف جسد رجلهن الزوج بسبب صغر سنهن وبسبب انشغال الزوج أساسا في عمله السياسي. أثرت النسوة القادمات من وسط أوروبا على دور اللبانة عبر تحريف دورها التعويضي الى شخصي بسبب خلو النسوة من الوازع الاجتماعي الذي "يكبل" النسوة المحلّيات. وصارت اللبانة بالفعل تحقق الفائدة المادية العالية عبر اختلائها بالنسوة الأوروبيات وتعويضهن عن "كراهية" مفترضة للزوج الذي اصطحبهن بالقوة، أو عبر عدم التفات الزوج أساسا الى الواحدة منهن إلا عبر فترات متباعدة. فصارت اللبانة تذهب الى البيوت ان امتنعت الواحدة منهن من القدوم الى الحمام لأسباب رفض الزوج، وصارت العلاقة تتقوى كثيرا وصارت ظاهرة ثم انتقلت بالتدريج إلى نوعية العلاقة التي تربط اللبانة بالنسوة المحليات، وهذه الظاهرة تم رصدها حتى نهاية الستينات من القرن الماضي وتعتمد هذه المقالة على الرصد الستيني لها وماقبل، فقط.

صارت اللبانة عشيقة الكل. وصارت أيضا صلة وصل بين النسوة لتعريفهن ببعضهن البعض، فتقول للواحدة منهن عن جسد أخرى، وترغب فلانة بفلانة، وتنقل لسيدة إعجاب سيدة أخرى، وتخبر فتاة عن إعجاب فتاة رأتها في الحمام في يوم ما. هذا دور كانت تمارسه اللبانة بعد أن تتجاوز منتصف عمرها ويزول جمالها وجاذبيتها. أما وهي في صباها فإنها تكون طرفا في التغزل الشخصي ومصدر إعجاب لبعض النسوة اللواتي تمتعن بالبداية بكلامها ثم بلمساتها ثم بعلاقة كاملة يقصد منها التمتع الجسدي عبر العناق والقبل وباقي طرق استخراج المتعة والتعبير عنها.

وفي حالة اعتراف متبادل بين أطراف عدة، من النسوة، وإن على نطاق محدود، فإنهن كنّ يقمن بحجز الحمام كاملاً لهن يوما كاملاً ومنع أي امرأة غريبة من الدخول. وكان هذا اليوم ثمرة جهود اللبانة بتقريب النسوة الراغبات من بعضهن البعض ومنها أيضاً.

فاعلية اللبانة في الأساس تبدأ من إشارتها للأخريات المشتكيات بأنهن لايحسن التعامل مع أجساد أزواجهن، وعندما يطلبن منها التوضيح تقوم هي بأكثر من طريقة عبر شرح تطبيقي إما للوضعيات في الفراش وإما لطريقة التقبيل وإما لطريقة المداعبة. فتقول مثلا للفتاة المقبلة على الزواج : أنتِ تثارين من هنا ( وتشير لها بالاصبع أو باليد أو باللمس) . وتختار مكاناً غير مألوف كعضلة الزند أو باطن اليد أو أعلى الكاحل. وعندما تتلمسها توقع فيها إحساسا فعليا بالإثارة. وعندما تذهب الفتاة الى زواجها ومرور فترة لا بد أن الفتاة تلك لم تحظ بإثارة كالتي عودتها عليها اللبانة، ثم تبدأ الحكاية من جديد، عبر الشكوى أو المداعبة وقد تنتهي بممارسة تلذذية بين الطرفين.

اللبانة تحقق دخلا ماديا كبيرا من المستحمّات الراغبات اللواتي تم إيقاعهن بنوع خارجي من التمتع، والذي في أغلب الأحوال لن يحصلن عليه مع زوج قادم من مرحلة الدولة العثمانية. وتصبح اللبانة صلة وصل بين بيوتات المجتمع من خلال هذه السيطرة على نسائه وسيداته والتأثير فيهن هذا الأثر الكبير. فتمتلك المقدرة على توظيف شخص أو إقالة شخص أو أي طلب يحقق لها الفائدة. ومن المعلوم أن المخابرات السورية في أيام دولة الوحدة بين سوريا ومصر قد قامت باعتقالات كثيرة للبانات متواجدات في الحمامات والتحقيق معهن والطلب اليهن التعاون الأمني مع الدولة. وكان الناس يخلطون بين شخصية "القوّادة" وشخصية اللبانة بسبب التشابه النسبي في الشخصيتين. وهذا خلط ناتج من غموض شخصية اللبانة في التاريخ الدمشقي القديم.

المهم، وحتى الآن، يوجد كثير من النسوة الشاميات واللواتي لم يدخلن الستين من عمرهن ما زلن يتحدثن علن شخصية اللبانة بكل حميمية فقد ارتبطت عندهن بالتغزل والثقة بالنفس والجو السحري والعطور، وكذلك لحظات التشكي والاعتراف والتمتع والقبل الطويلة في ليل دمشق الجميل والحميم بطبيعته. اللبانة ركنٌ من شخصية الشام الخفية، هي سر النساء ومتعتهن وعشيقة كل واحدة على حدة، ومعلّمة النساء على الحب وعلى المداعبة وعلى اكتشاف أماكن تمتع غير معهودة. وهي منظفة الأجساد باللبان ، ومنها اسمها، وهي ستّ الستات وحافظة الأسرار وعشيقة جنسها. باختصار كل ضوء خافتٍ في حمام دمشقي قديم ينطوي على وشوشات اللبانة للسيدات وينطوي على رائحة عطور تملأ هذا العالم بالحب بعد أن امتلأ بالكراهية والحقد.

كلما رأيتم ضوءا خافتا في حمام دمشقي تمنّوا أن تظهر لكم اللبانة أستاذة التقبيل ومعلمة اللذات ومنظفة السيدات وسر الفتيات.
عن د مديحة ن المرتقلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق